"الأنا الجمعى" قمة التجربة الصوفية لابن الفارض

فمن خلال التحليل الدلالي بدا جليًّا أن لفظ "الأنا" هو اللفظ المركزى للتجربة الصوفية في شعر ابن الفارض بغير منافس. وقد اتضح على ضوء هذا الاكتشاف أن المقصد الأسمى والغاية القصوى للتجربة الصوفية فيه إنما هو الاكتشاف والتحقيق لـ"ذاته" أو لـ"الأنا" فى أبعد أبعاده أو أعمق أعماقه. والواقع أن اللفظ "أنا" هو اللفظ المركزى للديوان كله على الأطلاق، وهو كذلك اللفظ المركزى لكل المراحل الصوفية الثلاث من الفرق والاتحاد والجمع في قصيدته التائيَّة الكبرى
 
والواقع أن رحلة الشاعر لا تنتهى عند مرحلة الاتحاد، إنما تترقى به إلى آفاق الجمع أو تغوص به فى عمق "بحار الجمع"، كما يسميه هو. ذلك لأن الشاعر في مرحلة الجمع أنه توصل إلى الكشف الجلى لحقيقة "ذاته" أو الـ"أنا"، وبالتالي فـ"ذاته"، أو الـ "أنا"، تتخذ فى نظر الشاعر أبعادًا جديدة واسعة يكمن تسميته بـ "الأنا الجَمْعِىّ" (the all-comprehensive self). ويصف لنا الشاعر أبعاد "ذاته" أو الـ"أنا"، كما يلى:

1-    يُثبت الشاعر أن الـ"أنا"، أو "ذاته"، كان حاضرًا فى الأزلية عند أخذ ميثاق الولاء حيث كان الجمع تامًا بين المخاطب (أَلَسْتُ) والمخاطب (بَلَى) بغير فصل أو فرق (ب 495 – 496). وهناك إشارة واضحة إلى الآية القرآنية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِم:ْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى! شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [سورة الأعراف: الآية 172].  
2-    يثبت الشاعر أن الـ"أنا"، أو "ذاته"، هو مصدر الفيض والإمداد على الكون كله بصفاته وأفعاله. ويظهر ذلك واضحًا خاصةً فى صور الحب والجمال حيث يكتشف أنه هو الفاعل والمفعول فى الكل: فهو المُحِبُّ والمحبوبُ فى آن واحد؛ وكذلك هو الفاعل فى تاريخ الأنبياء والأولياء كالقطب الأسمى. ويشرح الشاعر هذه الوحدة الفعلية بما يجرى فى لعب "خيال الظل" من الوحدة بين الفاعل الواحد والأشكال المتعددة، حيث يقول: (التايئة الكبرى 704-708)

وَكُلُّ الَّذِى شَاهَدْتَهُ فِعْلُ وَاحِدٍ


بِمُفْرَدِهِ لَكِنْ بِحُجْبِ الأَكِنَّةِ

إِذَا مَا أَزَاَل السِّتْرَ لَمْ ترَ غَيْرَهُ


وَلَمْ يَبْقَ بِالأَشْكَالِ إِشْكَالُ رِيبَةِ

كَذَا كُنْتُ مَا بَيْنِىَ مُسْبِلاً


حِجَابَ الْتِبَاسِ النَّفْسِ فِى نُورِ ظُلْمَةِ

لِأَظْهَرَ بِالتَّدْرِيجِ لِلْحِسِّ مُؤْنِسًا


لَهَا فِى ابْتِدَاعِى، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةِ



3-    فليست إذن المظاهر الكونية فى وعى الشاعر إلا أشكالاً وصور تلبس فيها الـ"أنا" أى "ذات" الشاعر الصوفى لكى يظهر بها ذاتَه لذاتِه تدريجيًا عبر الزمان والمكان.
4-     وأخيرًا يكتشف الشاعر ويثبت أن الـ"أنا" أو حقيقة "ذاته" يمتدُّ وراء كل تلك الأشكال والصور والمظاهر فى جمعٍ فعلى أو فعلٍ جمعى من أقصى الكون إلى أقصاه، فيقول: (التايئة الكبرى 716-717):

وَعُدْتُ بِإمْدَادِى عَلَى كُلِّ عَالَمٍ


عَلَى حَسَبِ الأَفعَالِ فِى كُلِّ مُدَّةِ

وَلَوْلاَ احْتِجَابِى بِالصِّفَاتِ لَأُحْرِقَتْ


مَظَاهِرُ ذَاتِى مِنْ سَنَا سُبُحِيَّتِى


وفى بحار ذلك الجمع الفعلى الفاعل الفعال فى كل شىء ومن أعمق ذلك الاندماج الكامل مع الكل لا يتردد الشاعر الصوفى فى أن يعبِّر عن مواجيده مترنمًا بلهجة مبهرة مدهشة:

وَلَوْلاَيَ لَمْ يُوجَدْ وُجُودٌ وَلَمْ يَكُنْ


شُهُودٌ، وَلَمْ تُعْهَدْ عُهُودٌ بِذِمَّةِ

فَلاَ حَىَّ إِلاَّ عَنْ حَيَاتِى حَيَاتُهُ


وطَوْعُ مُرَادِى كُلُّ نَفْسٍ مُريدَةِ

وَلاَ قَائِلٌ إِلاَ بِقَوْلِى مُحَدِّثٌ


وَلاَ نَاظِرٌ إِلاَّ بِنَاظِرِ مُقْلَتِى


فيرى الشاعر أن فى أعماق هذا الـ"أنا الجمعى" تتآلف وتتعانق كل المظاهر التى تبدو فى عين وعينا السطحى الظاهر متنافرة ومتناقضة، فيقول:

شُهُودِى بِعَيْنِ الجَمْعِ كُلَّ مُخَالِفٍ


وَلِىَّ اِئتِلاَفٍ، صَدُّهُ كَالمَوَدَّةِ


ولكن يلاحظ أن حقيقة هذا الـ"أنا الجمعى" ليس لها تعريف واضح بين فى نص القصيدة، إنما يصفها الشاعر بصور مختلفة وتشبيهات متعددة ومتلونة تعبر عما يشعر به هو من مشاعر وخواطر عبر تجربته الفريدة.

"الأنا الجمعى": هو القطب ومفيض الجمع
والواقع أنه لا يوجد فى كل القصيدة إلا تسميتين لحقيقة ذلك الـ"أنا الجمعى"، وعليهما أيضًا يخيم الكثير من الغموض. فالشاعر ينسب لذاته تسمية "القطب" فى البيتين التاليين: (التايئة الكبرى 500-501)

فَبِى دَارَتِ الأَفْلاَكُ فَاعْجَبْ لِقُطبِهَا الـ


ـمُحِيطِ بِهَا وَالقُطْبُ مَرْكَزُ نُقْطَةِ

وَلاَ قُطْبَ قَبْلِى عَنْ ثَلاَثٍ خَلَفْتُهُ


وَقُطْبِيِّةُ الأَوْتَادِ عَنْ بَدَلِيَّتِى


يقول الشاعر معرِّفًا ذاته إنه القطب الذى هو محيط بالكل ومركز للكل، وإن قُطبيَّتَه قُطبيَّةٌ مُطلَقةٌ لم تأتِه عبر الدرجات الصوفية المعروفة من الأوتاد والأبدال. فهذه إشارةٌ واضحة إلى نظرية القطب المعروفة فى الأوساط الصوفية منذ عهد الحكيم الترمذى (ت 295هـ/ 898م)، صاحب كتاب "ختم الأولياء". إلا أن ابن الفارض يدعى لنفسه هنا قطبيةً مُطلقةً لا صلة لها بتواتر الطرق الصوفية المعروفة. ولا يسع المجال هنا لشرح موضوع القطبية الواسع المعقد.
 وأما التسمية الأُخرى فقد تُلقِى بعض الضوء على عمق التجربة الصوفية عند ابن الفارض بأكملها. فيقول الشاعر فى آخر القصيدة: (التايئة الكبرى 751-753)

وَلَى مِنْ مُفِيضِ الجَمْعِ عِنْدَ سَلاَمِهِ


عَلَىَّ بِـ"أَوْ أَدْنَى" إِشَارَةُ نِسْبَةِ

وَمِنْ نُورِهِ مِشْكَاةُ ذاتِىَ أَشْرَقَتْ


عَلَىَّ فَنَارَتْ بِى عشَائى كَضَحْوَتِى

فَأُشْهِدْتُنِى كَوْنِى هُنَاكَ فَكُنْتُهُ


فَشَاهَدْتُهُ إِيَّاىَ والنورُ بَهْجَتِى


وفى هذه الأبيات، هناك إشارة جلية إلى مقام "أو أدنى" الذى يُنسَب عند الصوفية إلى الحقيقة المحمدية. ويقول الشاعر الصوفى إن تلك الحقيقة النورية هى "مفيض الجمع" لذاته ومنبعه الأول له، وقد كوشف له ذلك فى مكاشفة غيبية (فَأُشْهِدْتُنِى كَوْنِى هُنَاكَ فَكُنْتُهُ). وكذلك يقول إنه اندمج مع هذا النور الأصلى الأول اندماجاً تامًا (وَشَاهَدْتُهُ إِيَّاىَ)، فأصبح الشاعر بذاته ذلك النور الأزلى (النورُ بَهْجَتِى). ولا شك أن الشاعر الصوفي كشف فى هذه الأبيات عن بعض السر الغامض الذى كان يخيم على أشعاره ومعاناته الصوفية طوال رحلته الروحية. إنه يشير إلى أن الـ"لأنا الجمعى" الذى توصل إليه مصدره الأول ومرجعه الأخير هو ذلك النور الأول الأصلى الذى يُعرف عند الصوفية "بالنور المحمدى". ويقال إنه النور الذى به خلق الله كل شىء وبه وفيه أنار تاريخ الأنبياء والأولياء، فهو النور الذى ينعكس فى صورة "الإنسان الكامل". فقد أضفى الشاعر على نفسه فى مرحلة الجمع الصفات المعروفة لـ"الإنسان الكامل" عند الصوفية. فنلاحظ أن الشاعر الصوفى لم يتوقَّفْ على شرح نظريته لتلك الحقيقة العليا ولا شغل نفسه بالتفلسف حولها كما فعل بعده شراحه ودارسوه.

وأخيرًا يُمكننا أن نُلخِّص سفرنا الدلالى فى التائية الكبرى فى إثبات أن هذه القصيدة تبدو لنا ترجمة ذاتية عن اكتشاف وتحقيق "ذات" الشاعر أو الـ"أنا" إلى أبعد أبعاده، وهو ما نسميه نحن ألـ"الأنا الجمعى". واتضح كذلك أن هذا ألـ"الأنا الجمعى" إنما تحقق للشاعر بالاندماج الكلى فى النور الأول الأصلى المعروف عند الصوفية بتسميات مثل "النور المحمدى" أو "الحقيقة المحمدية" أو "الإنسان الكامل".