لغة الحب فى التائية الكبرى


عُرف ابن الفارض فى الأدب العربى الصوفى وغير الصوفى بـ"سلطان العاشقين" حتى إن الكثير من الباحثين رأوا أن ابن الفارض هو شاعر الحب أو العشق الإلهى على الإطلاق.
إلا أن الدراسة الدلالية فى لغة الحب كما ترد فى التائية الكبرى فكشفت أن لغة الحب، رغم أهميتها في شعر ابن الفارض، لها دور محدود فى التجربة الصوفية الفارضية. فهناك في في ديوان ابن الفارض ثلاثة أصول لغوية لها مركزية واضحة فى قاموس الحب الفارضى، وهى (حـ_ب_ب) ـ (هـ_و_ي) ـ (و_ل_ي).  
 
وعندما مقارنة هذه الأصول الثلاثة اتضح أن الأصل (و_ل_ي) هو الأوسع معنى واستعمالاً فى القصيدة، وإن لم يكن الأكثر تَكرارًا. والواقع أن مشتقات هذا الأصل ترد فى كل المراحل الثلاث للسفر الصوفى عند ابن الفارض، بل له استعمال خاص فى المرحلة الأخيرة، هى الجمع. بينما ينحصر استعمال الأصول الأخرى فى مرحلتَي الفرق والاتحاد حيث يكتشف الشاعر أن حبه للحبيبة إنما هو حبه لذاته. ففى مرحلة الجمع لا يتكلم ابن الفارض بلغة الحب والهوى، وإنما يتكلم بلغة الولاء أو الوَلاية الصوفية.
ويبدو أن السبب الأساسى لذلك الاستعمال الفريد يرجع إلى أن الأصول الأخرى من مثل (حـ_ب_ب) ـ (هـ_و_ي) يحتوى دائمًا فى إدراك الشاعر على لون من الثنائية التى لا تليق بمرحلة الجمع. فالحب يُوحى دائمًا بحركة بين اثنين، حتى فى مرحلة الاتحاد حيث يكتشف الشاعر أن حبه لحبيبته إنما هو حب ذاته لذاته، فيقول "... ذَاتِى لذَاتِى أَحَبَّبتِ" (التايئة الكبرى ب 263). والواقع أن الشاعر يكتشف ذاتيته العميقة من خلال عملية يندمج بها مع حبيبته حتى يصير الإثنين ذاتًا واحدة. ويمكن تسمية هذه العملية بـ "الصيرورة الذاتية،م أي نحو تحقيق الذات" (to become one’s own self)، عبر عنها ببعض عبارات خاصة لقاموس الفارضى، مثل: أَنَا إِيَّاها – هِىَ إِيَّاىَ – أَنَا إِيَّاىَ.
والواقع أن الشاعر الصوفى ترقَّى في مرحلة الاتحاد إلى اندماجه الكامل مع حبيبته فى وحدة تامة، فترنم طويلاً فى هذه المرحلة عن سكره التام ونشوته الشاملة بها، إذ لم يعد يرى فى الحقيقة إلا حبيبته، وأخيرًا إلا ذاته، إلا أنه. إلا أنه، رغم سمو هذه المرحلة الصوفية، ليفيق منها ليتحَّقق أنه لم يزل فى الثنائية، أو كما يقول هو "فى الثنوية" (التايئة الكبرى ب 230).
فيتضح من ذلك أن مرحلة الحب ليست قمة معاناة ابن الفارض الصوفية. وقد أعلن ذلك هو بنفسه بكل وضوح حيث قال: (التايئة الكبرى 294-295)

فَنِى الحُبُّ! هَا قَدْ بِنْتُ عَنْهُ بِحُكْمِ


مَنْ يَرَاهُ حِجَابًا فَالهَوَى دُونَ رُتْبَتِى

وجاوَزْتُ حَدَّ العِشْقِ، الحُبُّ كَالقِلَى

وعَنْ شَأْوِ مِعْرَاجِ اتِّحَادِىَ رِحْلَتِ

فيبدو واضحًا كل الوضوح من هذه الأبيات أن الحب مع مرادفيه من العشق والهوى لا يزال حجابًا للشاعر وإن وصل بها إلى مرحلة الاتحاد. إنما يقصد الشاعر الصوفى أُفقًا أعلى وأوسع من ذلك، فإن رحلته الروحية تقوده عبر كل حجابٍ حتى تغوص به فيما يسميه هو "بحار الجمع".