وختامًا لهذه الدراسة
يتضح أن التسمية التقليدية لابن الفارض كـ"سلطان العاشقين" لا تُعبَّر
عن عمق تجربته الصوفية وأبعادها البعيدة. إنما ابن الفارض فى الحقيقة يجب أن يُفهم
على أنه شاعر الـ"الأنا الجمعى" الذى يجد حقيقة ذاته فى الاندماج التام في
الحقيقة العليا التى هى فى الاصطلاح الصوفى، كما رأينا، تسمَّى "النور
المحمدى" أو "الحقيقة المحمدية" أو "الإنسان الكامل".
فليس وصف الحب والجمال فى شعر ابن الفارض إلا جزءًا محدودًا ومرحلةً عابرة فى سفره
الصوفى الذى يهدف إلى آفاق أعلى وأوسع ألا وهى "بحار الجمع"، أى تلك
الحقيقة النورية العليا التى هى مصدر الكل ومرجع الكل. فربما ساعدت هذه الدراسة
الدلالية ـ كما نعتقد ـ على مراجعة بعض الأحكام الموروثة على أشعار ابن الفارض
ومعناها الصوفى. وربما تدَّخِر لنا الأيام من يتقدم بدراساتٍ أخرى قد توضح ما خَفِى
علينا من أسرار هذا الشاعر المصرى العظيم
ولكن، في نهاية هذا
المطاف الدلالى في ديوان ابن الفارض فلا بد من الإشارة إلى أن المعانى الصوفية لا
تتأتى من خلال بحث علمى بحت فقط، حتى وإن كان له دور لا غنى عنه في فهمها. وذلك
لأن المعاناة الصوفية يعيشها الصوفى فى عمق لا تُعبر عنه الكلمةُ الملفوظة. وقد
أشار ابن الفارض إلى هذه الإشكالية حيث يقول:
فَأَلسُنُ مَنْ يُدْعَى
بِأَلْسَنِ عَارِفٍ
|
وَإِنْ عَبَرتْ كُلَّ العِبارَاتِ كَلَّتِ
|
والواقع أن الدراسات
الصوفية تتطلب ممن يهتمُّ بها الكثير من الصفاء الروحى والنقاء النفسى حتى يتجانس
الباحث مع الشاعر الصوفى فيُدركََ مقاصده البعيدة بذوق مُرهَف لطيف. وقد قال ابن
الفارض فى هذ الصدد مُحذرًا قُراءَهُ:
وَعَنِّىَ
بِالتَّلْوِيحِ يَفْهَمُ ذَائِقٌ
|
غَنِىٌ عَنِ
التَّصْريح لِلْمُتَعَنِّتِ
|
وهنا يحسن أن يَتوقفَ
القارئ مُحاذرًا كيلا يكونَ من المتعنتين.