ملخص ومقدمات التائية الكبرى
1- استهلال بلغة الحب (التَّغَزُّل). (الأبيات: 1- 116):
بالعودة إلى اللغة التقليدية للشعر الغزليّ العربيّ، التي كان المتصوفة قد تبنَّوها منذ أمد بعيد للتعبير عن تجربتهم الروحية في الحب الإلهي، يُعْلِنُ الشاعر عن حبه المُتَّقِدِ لمحبوبته. وبمحاكاة المفردات المختزنة لدي شعراء الغزل، يصف الشاعر المتصوف تباريح شوقه، ذلك الذي يحترق داخله ويُضْنِِيه، بل إنَّ الشاعر علاوة على ذلك يُقْسِمُ أنه على استعداد تام للموت والمحق التام في سبيل محبوبته. وترُدّ المحبوبة عليه بفظاظة، وبعودتها على نحو مماثل إلى المفردات التقليدية للشعر الغزلي، وتوبخ الشاعر وتُعَنِّفُهُ، عارضةً أنَّ ألفاظه ليست صادقة وأنه لا يزال بعيدًا عن الفناء الحق في الحب. في هذا الاستهلال الشعري يلجأ ابن الفارض ‘إلى استخدام الصور والتعبيرات التي تُشَكِّلُ الموضوع الرَّئيسيَّ لقصائده الصغار، إلى حَدِّ أنَّ المرء يمكنه اعتبار هذا الاستهلال الغزلي تلخيصًا لهذه القصائد.
2- أوَّلُ وَصف للاتحاد. (الأبيات: 117- 196)
في تصاعد تدريجيِّ للصور، يُفْشِي الشاعر مَشَاعِرَ تحركتْ فيه من خلال حضور المحبوبة في أعمق أعماقه. وأخيرًا، يظهر سره في صلاة إلى النور: ففي الصَّلاَةِ يكشف الشاعر يغدو واعيًا تمام الوعي لاتحاده الأصلي مع محبوبته؛ ففي الصلاة يغدو المُحِبُّ والمحبوبة ذاتًا واحدةً ، فكلاهما يسجد لحقيقته الواحدة. وفوق ذلك، فالشاعر يُدْرِكُ أنَّ هذا الاتحاد قد كان موجودًا كذلك منذ الأزل. والحق أنَّ الشاعر يغدو الآن واعيًا بأنه كان منذ الأزل في عشق مع محبوبته، وأنَّ كليهما- المحب والمحبوبة- منذ الأزل كان حقيقة واحدة متوحدة. وبعد هذا المكاشفة المتسامية، يَخْتم الشاعر هذا المقطع شارحًا لمريديه الطريق التي ينبغي عليهم اتباعها كي يَصِلُوا كما وَصَل هو أيضًا إلى هذه الحالة الرفيعة.
3- وصف ثانٍ للاتحاد وتوضيح أكثر له. (الأبيات: 197- 285)
بعد نقل التعاليم إلى مُرِيده ، يعود الشاعر ليصف لمريده كيف وصل إلى مرحلة الاتحاد تلك مع محبوبته. ويشرح الشاعر أن هذا الاتحاد قد حَصَلَ بَعْدَ رحلة تُنَسُّكِيَّة طويلة إلى حَدِّ أنه وصل إلى حالة الشهود، حيث تنمحي كل المدركات الحسية. وفي هذه الحالة من الاتحاد أضحى الشاعر مُدْركًا كذلك لحقيقته الذَّاتية العميقة:
(212) ففي الصحو بَعْدَ المحو لم أَكُ غَيْرَها *** وَذاتي بِذَاتي إذْ تَجَلَّتْ تَحَلَّتِ
فهذه المرحلة من الاتحاد تُدْعى في النَّصِّ "اتحادًا" والتي تعني "اتحاد الذات". ففي هذه المرحلة يكْتشف الشاعر وحدته الذاتية مع محبوبته، فكلاهما ذات واحدة. وهذه المرحلة من "الوحدة الذاتية " تتبع مرحلة الفرق تلك التي تَمَّ وَصْفُها في المقطع الأول من القصيدة.
وتتلو ذلك الأبيات (219- 240)، وعبر بضعة أمثلة مَأْخوذة من التجربة العامة، يحاول الشاعِر أنْ يشرح لمريده كيف أنه من الممكن أنْ يَغْدو الاثنان واحدًا، وهي حالة تظهر منافية للعقل بالنسبة للفكر العقلاني العادي. وبعد إثبات هذه النقطة، يأخذ الشاعر مريده في رحلة خيالية رائعة عبر التاريخ ذاكرًا بالاسم أكثر المحبين شهرة في الأدب الْعَرَبيّ كي يَصِلَ إلى الخاتمة المذهلة التي فحواها أنَّ كل هؤلاء المحبين لم يكونوا إلاَ مظاهر لحب أوحد، هو الحب بين ذاته وَذات المحبوبة، وفي النهاية حب ذاته لذاته. ومن الممكن عَنْوَنَةُ هذا المقطع من القصيدة بِـ"إعلان تَوَحيدِ الحب" في كل تجلياته. واختتامًا لهذا المقطع، يحرص الشاعر على إثبات أنَّ هذه الحالات المذهلة تأتي في توافق تامٍّ مع التعاليم الدينية الواردة في نص القرآن والسنة النبويَّة الأبيات (277- 285).
4- سُمُوّ حالة الشاعر الصوفية. (الأبيات: 286- 333)
يبدأ الشاعر واصفًا سمو الحالة الصوفية التي وصل إليها ومُعْلِنًا أنَّ هذه الحالة قد نقلته وراء كل أوصاف الحب. الآن تخطى الشاعر حالة الوحدة الذاتية لِـ"أنا إيَّاها" حتى "أنا إيَّايَ"، فيتوجَّه برحلته الروحية نحو بحار "الجمع" الكلّي الشامل. إنه وصل لما يُسْمَّى في المصطلح التَّقَنِي الصوفي "صَحْو الجمع" أو "الفرق الثاني" الذي يعتبر أرفع الحالات الصوفية. في هذه الحالة يأتي الشاعر إلى مقام امتلاك كامل الامتيازات الممنوحة للأنبياء ويصبح كذلك مُدْرِكًا أنَّ كل سجايا وأفعال الكون ليست إلا فيضًا أو تدفُّقًا لصفاته الخاصة. ويختم الشاعر هذا المقطع مُصَرِّحًا بأنَّه ليست ثمَّة تسميةٌ صوفية مناسبةً له الآن، فهو في حالة تعلو كل تلك التصنيفات الخاصة بشتى الأحوال الصوفية. ومن هذا المقطع إلى باقي القصيدة يمكن أنْ يُقرأَ كتوصيف مُطَوَّلٍ لتسامي حالة الشاعر الصوفية الخاصة بـ"الجمع" الكلي الشامل الذي ستتمُّ مقاربته من زوايا مختلفة.
5- عجائب "الجمع": تآلُف الأَضداد. (الأبيات: 334- 440)
في هذا المقطع يبدأ الشاعر في عرض ما يمكن تسميته "عجائب الجمع". إنه يفتتحه بـ"تَغَزُّل" جديد (الأبيات 334- 387) يوازي التَغَزُّل الأول في مطلع القصيدة (الأبيات 1- 116). ولكن معنى رموز الحب أضحى واضحًا منَ الآن: فالاثنان- المحِبَّ والمحبوبَ- واحدٌ وذَوَا جوهر واحِدٍ يكشف عن ذاته لذاته ويُحِبُّ ذاتَه بذاتِهِ.
يصف الشاعر أعجوبة الجمع: فالأضداد تأتي معًا وتتصالح في تآلف مُدْهِشٍ. إنَّ حقل الصفات المحسوسة أو الظواهر المرئية (المرموز إليها في القصيدة بشخصية اللائم في قصص الغرام) عَادَة ما يكون مقابلاً لحقل الصفات الروحيَّة والمعاني الباطنية (المرموز إليه في القصيدة بِشخصية الواشي في قصص الغرام). فعلى العكس، فإنَّ الشاعر يشهد الآن بأن بين العالمين- المرئي وغير المرئي- تجاوبًا عميقًا. هذا التناغم يُخْتَبَر على نَحْو واضح في "السماع الموسيقي الصوفي"، والذي يتم فيه الإحساس بأنَّ كلا العالمَيْن في تطابق عميق. ويختتم الشاعر هذا المقطع بدفاعٍ انفعالي عَنِ الممارسة الصوفية لِـ"السماع"، وهي الممارسة التي قُوبِلَتْ غالبًا وعلى نحو عنيف بمعارضة من قِبَل عدد من علماء السنة المتزمتين، من أمثال ابن تيمية (ت 728هـ/ 1328م).
6- عجائب "الجمع": "أنا" الشاعر، أي ذاته، هو القطب الأعلى لسائر الوجود . (الأبيات: 441- 503)
في هذا المقطع يُوَسِّعُ الشاعر أُفُقَهُ حتى يبلغ الإدراك التام بكونه المركز لكامل الكون: فحوله تدور كل أفلاك العوالم؛ لأنه القطب الأعلى للوجود. إنَّ الشاعر يعود ههنا إلى مصطلح صوفي معروفٍ معرفة جيدة، دون الاهتمام بشرحه، مُسَلِّمًا جَدَلاً بأنه كان مفهومًا على نحو جَيِّدٍ من قِبَل مُتَلَقِّيهِ. فَمَعْنَى كونه قطب الوجود أي أنْ تتوجَّه إليه كل العبادات الدينية، ومنه يَتَلَقَّى الخلق التام حركته، وبه تُوهَبُ الدرجات الروحانية عبر التاريخ في الصفات الروحانية للأنبياء والأولياء. وفي النهاية يوضح الشاعر أنَّ منبع هذه الحالة المتسامية هو "ميثاق الولاء المذكور في القرآن (سورة الأعراف، الآية: 172). فهذه العبارة القرآنية تحكي عَنْ شهادة بدائية بربوبية الله العليا وعلى الوحدة المتعالية المطبوعة منذ الأزل في النفوس البشرية. هذا الميثاق غَدَا منذ الجنيد (ت 298هـ/ 910م) واحدًا من الموضوعات الرئيسية في الفكر الصوفي. فالشاعر يعلن الآن أنه كان حَاضِرًا في لحظة الذَّرِّ حين سأل الله الخلائق: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" فأجابوا "بَلَى" (القرآن سورة الأعراف، الآية: 172). فالشاعر الآن واعٍ أنه كان في تلك اللحظة السائل والمجيب كليهما: فالحق أنه في تلك اللحظة لم تكن هناك ثنائيةٌ أو مَعِيَّة، بل وحدةٌ مطلقة. وختامًا يُقِرُّ الشاعِرُ بأنَّ هذا السِّرَّ من الممكن أنْ يَنْكَشِفَ فحسب في مقام الجمع.
7- عجائب "الجمع": الذَّات والصفات والأسماء والأفعال هي كلها حقيقة واحدة في الشاعر. (الأبيات: 504- 588).
يُفْتَتَحُ هذا المقطع كذلك ببعض الأبيات الغزلية التي يُغَنّي الشاعِر فيها لمحبوبِتهِ، ولكنه الآن في حالة سُكْرٍ تامٍّ من الاتحاد. الآن، تتحول كل الضمائِرِ إلى صيغة المتكلم خالِقَةً ألحانًا غَرِيبة لكن خَلاَّبَة من الأصوات والصُّوَرِ. ثُمَّ، باتخاذِ نغمة كلامية أكثر، يُوَضِّحُ الشاعِرُ أنَّ حالته قد فاقت وَعَلَتْ كل الممايزات المعروفة في علم الكلام الكلاسيكيّ: أي الممايزة بين ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله. والشاعر يؤكد أنَّ كُلَّ هذه المصطلحات تَدُلُّ في نفسه على حقيقة واحدةٍ. وفضلاً عن ذلك، فإنَّه في هذه الحالة الاتحادية تتصف كل واحدة من ملكاته الحسية بكلِّ الصفات التي تتصف بها كل الملكات الأخرى: فإنَّ تبادلاً تامًّا من العمليات يأخذ مكانه فِيهِ، وهذه أعجوبة أخرى من عجائب الجمع.
8- عجائب "الجمع": يَمتدُّ فعلُه عبر الزمان والمكان وراء كل حدود. (الأبيات: 588- 650).
في حالة وحدة الجمع هذه يُضْحِي الشاعر واعيًا أكثر- نظرًا لأنه قطب الكون - بأنَّ فعله يمتد وراء كل حدود المكان والزمان. إنه هو الذي صنع- في كل مكان وزمان- كل المعجزات المنسوبة إلى الأنبياء والكرامات المنسوبَةَ إلى الأولياء. وفوق كل شيء تنكشف فيه كل الصفات الإلهية العليا، أي الجلال والجمال والكمال في توالج متبادل. إنه يمكنه الآن أنْ يفهم ويتأمل هذه الصفات في كُلِّ المظاهر الكونية حيثما كانت. إنَّ بعضًا من أكثر الأبيات إدْهاشًا وأشدها جدلية يوجد في هذا المقطع.
9- عجائب "الجمع": نماذج وتوضيحات. (الأبيات: 651- 731).
في هذا المقطع من القصيدة يقصد الشاعر أنْ يشرح تارة أخرى لمريده تجربته الصوفية التي قد تكون منافية للفكر العقلانيّ: فكيف يكون ممكنًا أنْ يوجد الاتحاد والتعددية مَعًا؟ وكيف يكون ممكنًا أنْ يكون في كلِّ شيءٍ وأنْ يكون كل شيء فيه؟ فهذا المقطع موازٍ للفكرة الموجودة في الأبيات (219- 285) التي قُدِّمت فيها نفس هذه التوضيحات.
ومن أجل هذا الهدف، فإنَّ الشاعر يرجع إلى بعض النماذج المستقاة من التجربة المشتركة. ثُمَّ إنه في مقطع طويل (الأبيات 677- 706) يقدم وصفًا مثيرًا للعبة "خَيَالِ الظِّلِّ" كأكثر الأمثلة مناسبة لتوضيح مرماهُ. ففي هذا العرض، يبدو معروفًا على نحو جَلِيٍّ أنَّ واحدية "لاعب خيال الظِّلِّ" وتعددية الأشكال (ظلال العرائس على السطح) كلتاهما وراء كل المظاهر على الستار. وهكذا يتمُّ الاتحاد بين ذاته وكلية الكون: التعددية مَظْهَرٌ والواحدية حقيقة. وقد أَضْحَت لعبة "خَيَالِ الظِّلِّ" هذه مشهورة للغاية في الأدب الصوفي وغير الصوفي.
ويختتم الشاعر هذا المقطع مُبَجِّلاً مرة أخرى تسامي حالته الجمعية: فهو نور الوجود، ومصدر كل الأفعال في الكون، وكل كائن موجودٌ يحمل شهادة على توحيده.
10- عجائب "الجمع": هو غاية كل الأديان إذْ إنها مظاهره عبر التاريخ البشري (الأبيات: 732- 761).
لا يزال الشاعر يُوَسِّعُ على نحو أكثر من أفقه؛ كي يستوعِب كامل تاريخ الأديان عبر العصور. في حالته الصوفية الجمعية يكتشف الشاعر أنَّه كان دَوْمًا المقصَد الحقيقي لكل الأديان وأفعال العبادة، حتى ولو لم يكن هؤلاء المتعبدون أنفسهم غير مدركين لهذه الحقيقة. وهذه الفكرة تُسَمَّى "وَحدة الأديان" وكثيرًا ما كانت موضوعًا غالبًا جِدًّا على التأمُّل الصوفيِّ، كما في فلسفة ابن عربي الصوفيَّة.
وعلى نحو أكثر تحديدًا، فإنَّ الشاعر يؤكد أنَّه كان قد كشف عن نَفْسِه عبر التاريخ الديني للأنبياء وعلى وجه الخصوص تاريخ الإسلام. والحق أنَّه كان "النور الأبدي" الكائن منذ القدم وهو المصدر المتسامي لكل الأضواء الحسية.
وفي النهاية، واختتامًا لقصيدته، يبدو أنَّ ابن الفارض يكشف شيئًا ما من السِّرِّ العميق الذي بَقِيَ على امتداد أبياته حتى هذه النقطة. إنه يؤكد بِتوضيح أكثر أنه صَارَ واعيًا أنه ذات واحدة بذلك "النور الأبدي" الذي يُسَمَّي صوفيًّا بـِ"النور المحمدي" أو "الحقيقة المحمديَّة". ولهذا المفهوم تاريخ طويل في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي لدى مُتَصوفة من أمثال سهل التُسْتَرِي (ت 283هـ/ 896م) والحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ/ 922م). وهذه الفكرة ذاتها تطوَّرَت على نحو أوسع في زمن ابن الفارض من خلال الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (ت 638هـ/ 1240م) مع فكرة "الإنسان الكامل". ويبدو لنا أنَّ هذا هو المفهومُ الأساسيُّ لتجربة ابن الفارض الصوفية والمفتاح من أجل فهم تعبيراته غير المألوفة، والتي قصد الشاعر لنقله إلى قصيدته
1- استهلال بلغة الحب (التَّغَزُّل). (الأبيات: 1- 116):
بالعودة إلى اللغة التقليدية للشعر الغزليّ العربيّ، التي كان المتصوفة قد تبنَّوها منذ أمد بعيد للتعبير عن تجربتهم الروحية في الحب الإلهي، يُعْلِنُ الشاعر عن حبه المُتَّقِدِ لمحبوبته. وبمحاكاة المفردات المختزنة لدي شعراء الغزل، يصف الشاعر المتصوف تباريح شوقه، ذلك الذي يحترق داخله ويُضْنِِيه، بل إنَّ الشاعر علاوة على ذلك يُقْسِمُ أنه على استعداد تام للموت والمحق التام في سبيل محبوبته. وترُدّ المحبوبة عليه بفظاظة، وبعودتها على نحو مماثل إلى المفردات التقليدية للشعر الغزلي، وتوبخ الشاعر وتُعَنِّفُهُ، عارضةً أنَّ ألفاظه ليست صادقة وأنه لا يزال بعيدًا عن الفناء الحق في الحب. في هذا الاستهلال الشعري يلجأ ابن الفارض ‘إلى استخدام الصور والتعبيرات التي تُشَكِّلُ الموضوع الرَّئيسيَّ لقصائده الصغار، إلى حَدِّ أنَّ المرء يمكنه اعتبار هذا الاستهلال الغزلي تلخيصًا لهذه القصائد.
2- أوَّلُ وَصف للاتحاد. (الأبيات: 117- 196)
في تصاعد تدريجيِّ للصور، يُفْشِي الشاعر مَشَاعِرَ تحركتْ فيه من خلال حضور المحبوبة في أعمق أعماقه. وأخيرًا، يظهر سره في صلاة إلى النور: ففي الصَّلاَةِ يكشف الشاعر يغدو واعيًا تمام الوعي لاتحاده الأصلي مع محبوبته؛ ففي الصلاة يغدو المُحِبُّ والمحبوبة ذاتًا واحدةً ، فكلاهما يسجد لحقيقته الواحدة. وفوق ذلك، فالشاعر يُدْرِكُ أنَّ هذا الاتحاد قد كان موجودًا كذلك منذ الأزل. والحق أنَّ الشاعر يغدو الآن واعيًا بأنه كان منذ الأزل في عشق مع محبوبته، وأنَّ كليهما- المحب والمحبوبة- منذ الأزل كان حقيقة واحدة متوحدة. وبعد هذا المكاشفة المتسامية، يَخْتم الشاعر هذا المقطع شارحًا لمريديه الطريق التي ينبغي عليهم اتباعها كي يَصِلُوا كما وَصَل هو أيضًا إلى هذه الحالة الرفيعة.
3- وصف ثانٍ للاتحاد وتوضيح أكثر له. (الأبيات: 197- 285)
بعد نقل التعاليم إلى مُرِيده ، يعود الشاعر ليصف لمريده كيف وصل إلى مرحلة الاتحاد تلك مع محبوبته. ويشرح الشاعر أن هذا الاتحاد قد حَصَلَ بَعْدَ رحلة تُنَسُّكِيَّة طويلة إلى حَدِّ أنه وصل إلى حالة الشهود، حيث تنمحي كل المدركات الحسية. وفي هذه الحالة من الاتحاد أضحى الشاعر مُدْركًا كذلك لحقيقته الذَّاتية العميقة:
(212) ففي الصحو بَعْدَ المحو لم أَكُ غَيْرَها *** وَذاتي بِذَاتي إذْ تَجَلَّتْ تَحَلَّتِ
فهذه المرحلة من الاتحاد تُدْعى في النَّصِّ "اتحادًا" والتي تعني "اتحاد الذات". ففي هذه المرحلة يكْتشف الشاعر وحدته الذاتية مع محبوبته، فكلاهما ذات واحدة. وهذه المرحلة من "الوحدة الذاتية " تتبع مرحلة الفرق تلك التي تَمَّ وَصْفُها في المقطع الأول من القصيدة.
وتتلو ذلك الأبيات (219- 240)، وعبر بضعة أمثلة مَأْخوذة من التجربة العامة، يحاول الشاعِر أنْ يشرح لمريده كيف أنه من الممكن أنْ يَغْدو الاثنان واحدًا، وهي حالة تظهر منافية للعقل بالنسبة للفكر العقلاني العادي. وبعد إثبات هذه النقطة، يأخذ الشاعر مريده في رحلة خيالية رائعة عبر التاريخ ذاكرًا بالاسم أكثر المحبين شهرة في الأدب الْعَرَبيّ كي يَصِلَ إلى الخاتمة المذهلة التي فحواها أنَّ كل هؤلاء المحبين لم يكونوا إلاَ مظاهر لحب أوحد، هو الحب بين ذاته وَذات المحبوبة، وفي النهاية حب ذاته لذاته. ومن الممكن عَنْوَنَةُ هذا المقطع من القصيدة بِـ"إعلان تَوَحيدِ الحب" في كل تجلياته. واختتامًا لهذا المقطع، يحرص الشاعر على إثبات أنَّ هذه الحالات المذهلة تأتي في توافق تامٍّ مع التعاليم الدينية الواردة في نص القرآن والسنة النبويَّة الأبيات (277- 285).
4- سُمُوّ حالة الشاعر الصوفية. (الأبيات: 286- 333)
يبدأ الشاعر واصفًا سمو الحالة الصوفية التي وصل إليها ومُعْلِنًا أنَّ هذه الحالة قد نقلته وراء كل أوصاف الحب. الآن تخطى الشاعر حالة الوحدة الذاتية لِـ"أنا إيَّاها" حتى "أنا إيَّايَ"، فيتوجَّه برحلته الروحية نحو بحار "الجمع" الكلّي الشامل. إنه وصل لما يُسْمَّى في المصطلح التَّقَنِي الصوفي "صَحْو الجمع" أو "الفرق الثاني" الذي يعتبر أرفع الحالات الصوفية. في هذه الحالة يأتي الشاعر إلى مقام امتلاك كامل الامتيازات الممنوحة للأنبياء ويصبح كذلك مُدْرِكًا أنَّ كل سجايا وأفعال الكون ليست إلا فيضًا أو تدفُّقًا لصفاته الخاصة. ويختم الشاعر هذا المقطع مُصَرِّحًا بأنَّه ليست ثمَّة تسميةٌ صوفية مناسبةً له الآن، فهو في حالة تعلو كل تلك التصنيفات الخاصة بشتى الأحوال الصوفية. ومن هذا المقطع إلى باقي القصيدة يمكن أنْ يُقرأَ كتوصيف مُطَوَّلٍ لتسامي حالة الشاعر الصوفية الخاصة بـ"الجمع" الكلي الشامل الذي ستتمُّ مقاربته من زوايا مختلفة.
5- عجائب "الجمع": تآلُف الأَضداد. (الأبيات: 334- 440)
في هذا المقطع يبدأ الشاعر في عرض ما يمكن تسميته "عجائب الجمع". إنه يفتتحه بـ"تَغَزُّل" جديد (الأبيات 334- 387) يوازي التَغَزُّل الأول في مطلع القصيدة (الأبيات 1- 116). ولكن معنى رموز الحب أضحى واضحًا منَ الآن: فالاثنان- المحِبَّ والمحبوبَ- واحدٌ وذَوَا جوهر واحِدٍ يكشف عن ذاته لذاته ويُحِبُّ ذاتَه بذاتِهِ.
يصف الشاعر أعجوبة الجمع: فالأضداد تأتي معًا وتتصالح في تآلف مُدْهِشٍ. إنَّ حقل الصفات المحسوسة أو الظواهر المرئية (المرموز إليها في القصيدة بشخصية اللائم في قصص الغرام) عَادَة ما يكون مقابلاً لحقل الصفات الروحيَّة والمعاني الباطنية (المرموز إليه في القصيدة بِشخصية الواشي في قصص الغرام). فعلى العكس، فإنَّ الشاعر يشهد الآن بأن بين العالمين- المرئي وغير المرئي- تجاوبًا عميقًا. هذا التناغم يُخْتَبَر على نَحْو واضح في "السماع الموسيقي الصوفي"، والذي يتم فيه الإحساس بأنَّ كلا العالمَيْن في تطابق عميق. ويختتم الشاعر هذا المقطع بدفاعٍ انفعالي عَنِ الممارسة الصوفية لِـ"السماع"، وهي الممارسة التي قُوبِلَتْ غالبًا وعلى نحو عنيف بمعارضة من قِبَل عدد من علماء السنة المتزمتين، من أمثال ابن تيمية (ت 728هـ/ 1328م).
6- عجائب "الجمع": "أنا" الشاعر، أي ذاته، هو القطب الأعلى لسائر الوجود . (الأبيات: 441- 503)
في هذا المقطع يُوَسِّعُ الشاعر أُفُقَهُ حتى يبلغ الإدراك التام بكونه المركز لكامل الكون: فحوله تدور كل أفلاك العوالم؛ لأنه القطب الأعلى للوجود. إنَّ الشاعر يعود ههنا إلى مصطلح صوفي معروفٍ معرفة جيدة، دون الاهتمام بشرحه، مُسَلِّمًا جَدَلاً بأنه كان مفهومًا على نحو جَيِّدٍ من قِبَل مُتَلَقِّيهِ. فَمَعْنَى كونه قطب الوجود أي أنْ تتوجَّه إليه كل العبادات الدينية، ومنه يَتَلَقَّى الخلق التام حركته، وبه تُوهَبُ الدرجات الروحانية عبر التاريخ في الصفات الروحانية للأنبياء والأولياء. وفي النهاية يوضح الشاعر أنَّ منبع هذه الحالة المتسامية هو "ميثاق الولاء المذكور في القرآن (سورة الأعراف، الآية: 172). فهذه العبارة القرآنية تحكي عَنْ شهادة بدائية بربوبية الله العليا وعلى الوحدة المتعالية المطبوعة منذ الأزل في النفوس البشرية. هذا الميثاق غَدَا منذ الجنيد (ت 298هـ/ 910م) واحدًا من الموضوعات الرئيسية في الفكر الصوفي. فالشاعر يعلن الآن أنه كان حَاضِرًا في لحظة الذَّرِّ حين سأل الله الخلائق: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" فأجابوا "بَلَى" (القرآن سورة الأعراف، الآية: 172). فالشاعر الآن واعٍ أنه كان في تلك اللحظة السائل والمجيب كليهما: فالحق أنه في تلك اللحظة لم تكن هناك ثنائيةٌ أو مَعِيَّة، بل وحدةٌ مطلقة. وختامًا يُقِرُّ الشاعِرُ بأنَّ هذا السِّرَّ من الممكن أنْ يَنْكَشِفَ فحسب في مقام الجمع.
7- عجائب "الجمع": الذَّات والصفات والأسماء والأفعال هي كلها حقيقة واحدة في الشاعر. (الأبيات: 504- 588).
يُفْتَتَحُ هذا المقطع كذلك ببعض الأبيات الغزلية التي يُغَنّي الشاعِر فيها لمحبوبِتهِ، ولكنه الآن في حالة سُكْرٍ تامٍّ من الاتحاد. الآن، تتحول كل الضمائِرِ إلى صيغة المتكلم خالِقَةً ألحانًا غَرِيبة لكن خَلاَّبَة من الأصوات والصُّوَرِ. ثُمَّ، باتخاذِ نغمة كلامية أكثر، يُوَضِّحُ الشاعِرُ أنَّ حالته قد فاقت وَعَلَتْ كل الممايزات المعروفة في علم الكلام الكلاسيكيّ: أي الممايزة بين ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله. والشاعر يؤكد أنَّ كُلَّ هذه المصطلحات تَدُلُّ في نفسه على حقيقة واحدةٍ. وفضلاً عن ذلك، فإنَّه في هذه الحالة الاتحادية تتصف كل واحدة من ملكاته الحسية بكلِّ الصفات التي تتصف بها كل الملكات الأخرى: فإنَّ تبادلاً تامًّا من العمليات يأخذ مكانه فِيهِ، وهذه أعجوبة أخرى من عجائب الجمع.
8- عجائب "الجمع": يَمتدُّ فعلُه عبر الزمان والمكان وراء كل حدود. (الأبيات: 588- 650).
في حالة وحدة الجمع هذه يُضْحِي الشاعر واعيًا أكثر- نظرًا لأنه قطب الكون - بأنَّ فعله يمتد وراء كل حدود المكان والزمان. إنه هو الذي صنع- في كل مكان وزمان- كل المعجزات المنسوبة إلى الأنبياء والكرامات المنسوبَةَ إلى الأولياء. وفوق كل شيء تنكشف فيه كل الصفات الإلهية العليا، أي الجلال والجمال والكمال في توالج متبادل. إنه يمكنه الآن أنْ يفهم ويتأمل هذه الصفات في كُلِّ المظاهر الكونية حيثما كانت. إنَّ بعضًا من أكثر الأبيات إدْهاشًا وأشدها جدلية يوجد في هذا المقطع.
9- عجائب "الجمع": نماذج وتوضيحات. (الأبيات: 651- 731).
في هذا المقطع من القصيدة يقصد الشاعر أنْ يشرح تارة أخرى لمريده تجربته الصوفية التي قد تكون منافية للفكر العقلانيّ: فكيف يكون ممكنًا أنْ يوجد الاتحاد والتعددية مَعًا؟ وكيف يكون ممكنًا أنْ يكون في كلِّ شيءٍ وأنْ يكون كل شيء فيه؟ فهذا المقطع موازٍ للفكرة الموجودة في الأبيات (219- 285) التي قُدِّمت فيها نفس هذه التوضيحات.
ومن أجل هذا الهدف، فإنَّ الشاعر يرجع إلى بعض النماذج المستقاة من التجربة المشتركة. ثُمَّ إنه في مقطع طويل (الأبيات 677- 706) يقدم وصفًا مثيرًا للعبة "خَيَالِ الظِّلِّ" كأكثر الأمثلة مناسبة لتوضيح مرماهُ. ففي هذا العرض، يبدو معروفًا على نحو جَلِيٍّ أنَّ واحدية "لاعب خيال الظِّلِّ" وتعددية الأشكال (ظلال العرائس على السطح) كلتاهما وراء كل المظاهر على الستار. وهكذا يتمُّ الاتحاد بين ذاته وكلية الكون: التعددية مَظْهَرٌ والواحدية حقيقة. وقد أَضْحَت لعبة "خَيَالِ الظِّلِّ" هذه مشهورة للغاية في الأدب الصوفي وغير الصوفي.
ويختتم الشاعر هذا المقطع مُبَجِّلاً مرة أخرى تسامي حالته الجمعية: فهو نور الوجود، ومصدر كل الأفعال في الكون، وكل كائن موجودٌ يحمل شهادة على توحيده.
10- عجائب "الجمع": هو غاية كل الأديان إذْ إنها مظاهره عبر التاريخ البشري (الأبيات: 732- 761).
لا يزال الشاعر يُوَسِّعُ على نحو أكثر من أفقه؛ كي يستوعِب كامل تاريخ الأديان عبر العصور. في حالته الصوفية الجمعية يكتشف الشاعر أنَّه كان دَوْمًا المقصَد الحقيقي لكل الأديان وأفعال العبادة، حتى ولو لم يكن هؤلاء المتعبدون أنفسهم غير مدركين لهذه الحقيقة. وهذه الفكرة تُسَمَّى "وَحدة الأديان" وكثيرًا ما كانت موضوعًا غالبًا جِدًّا على التأمُّل الصوفيِّ، كما في فلسفة ابن عربي الصوفيَّة.
وعلى نحو أكثر تحديدًا، فإنَّ الشاعر يؤكد أنَّه كان قد كشف عن نَفْسِه عبر التاريخ الديني للأنبياء وعلى وجه الخصوص تاريخ الإسلام. والحق أنَّه كان "النور الأبدي" الكائن منذ القدم وهو المصدر المتسامي لكل الأضواء الحسية.
وفي النهاية، واختتامًا لقصيدته، يبدو أنَّ ابن الفارض يكشف شيئًا ما من السِّرِّ العميق الذي بَقِيَ على امتداد أبياته حتى هذه النقطة. إنه يؤكد بِتوضيح أكثر أنه صَارَ واعيًا أنه ذات واحدة بذلك "النور الأبدي" الذي يُسَمَّي صوفيًّا بـِ"النور المحمدي" أو "الحقيقة المحمديَّة". ولهذا المفهوم تاريخ طويل في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي لدى مُتَصوفة من أمثال سهل التُسْتَرِي (ت 283هـ/ 896م) والحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ/ 922م). وهذه الفكرة ذاتها تطوَّرَت على نحو أوسع في زمن ابن الفارض من خلال الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (ت 638هـ/ 1240م) مع فكرة "الإنسان الكامل". ويبدو لنا أنَّ هذا هو المفهومُ الأساسيُّ لتجربة ابن الفارض الصوفية والمفتاح من أجل فهم تعبيراته غير المألوفة، والتي قصد الشاعر لنقله إلى قصيدته